ضمن فعاليات الدورة 25 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون الذي نظمه اتحاد إذاعات الدول العربية، التأمت يوم الثلاثاء 24 جوان/يونيو 2025 بالمدينة المتوسطية ياسمين الحمامات في تونس، ندوة فكرية مهمة بعنوان "الإعلام الفلسطيني على خط النار"، بحضور عدد كبير من الخبراء والإعلاميين والأساتذة الجامعيين وممثلي الهيئات والمؤسسات الإعلامية من تونس ومن الوطن العربي، إلى جانب متابعين وطلبة ومهتمين بالشأن الإعلامي الفلسطيني.
وقد قدّم المحاضرة الدكتور أحمد عساف، الوزير والمشرف العام على الإعلام الرسمي الفلسطيني، في واحدة من أكثر اللحظات دقة وحساسية في تاريخ القضية الفلسطينية، تحت وقع العدوان المتواصل على غزة، وتحت عنوان لا يشبه إلا الحقيقة: "الإعلام الذي يُروى تحت النار".
الإعلام الفلسطيني في مواجهة الرواية الزائفة
استهل الدكتور أحمد عساف مداخلته بالتأكيد على أن الإعلام الفلسطيني خاض على مدار تاريخه، ولا يزال، واحدة من أشرس المعارك الإعلامية والسياسية، في وجه ماكينة دعائية صهيونية سعت طيلة سبعين عامًا إلى طمس الحقيقة وتزييف التاريخ.
واعتبر عساف أن الإعلام الفلسطيني قد حقق انتصارًا حقيقيًا على الرواية المزيفة للاحتلال، وأعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الإعلام العالمي بفضل تضحيات كبيرة.
وذكّر بأن أكثر من 230 صحفيًا فلسطينيًا ارتقوا شهداء وهم ينقلون الحقيقة من ميادين النار، وسط استهداف ممنهج من قبل قوات الاحتلال بالقتل والاعتقال والاغتيال والقصف، معتبرا أن الاحتلال الإسرائيلي هو “عدو الحقيقة” بامتياز، لأنه يستهدف كل من يعبّر عنها وينقلها للعالم.
الإعلام المقاوم: مسؤولية وطنية وإنسانية
ورغم هذه التضحيات الجسيمة، شدّد الدكتور أحمد عساف على أن الإعلاميين الفلسطينيين لم يتراجعوا، بل ازدادوا إصرارًا على حمل رسالتهم الوطنية والإنسانية، رفضًا لكل سياسات القتل والتهجير والتشويه التي يمارسها الاحتلال.
وأشار إلى أن الإعلام الفلسطيني يخاطب اليوم العالم بـ11 لغة، حاملًا رسالة الحق والعدالة، ما ساهم في تحريك الرأي العام الدولي، وممارسة ضغوط على صناع القرار حول العالم.
كما نوه بالدور الكبير لوحدة الإعلام العربي في دعم القضية الفلسطينية، وتكامل الجهود مع الشعوب الحرة، وهو ما أعاد للقضية زخمها، وفرض حضورها في الوعي العالمي رغم محاولات الاحتلال طمسها.
عقدان من التضحيات: الأرقام تفضح الاحتلال
في جزء مؤثر من المحاضرة، قارن عساف بين أعداد الصحفيين الذين استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في آخر 20 شهرًا، وبين ما سُجل خلال 100 عام من الحروب والنزاعات العالمية، مؤكدًا أن الرقم الفلسطيني فاق كل ما عرفته البشرية خلال قرن، وهو ما يبرز حجم الإجرام الإسرائيلي ضد الإعلام.
وقال عساف إن الاحتلال يعتبر أن الصحفي الفلسطيني هو العدو الأول لأنه "يحمل الحقيقة"، داعيًا إلى مساءلة المجرمين من قادة الاحتلال أمام محكمة جنائية دولية مختصة بجرائم ارتكبت بحق الإعلاميين، في فلسطين وغيرها.
اتحاد إذاعات الدول العربية: تغطية استثنائية لأحداث غزة
سلّطت الجلسة الضوء على الجهود النوعية التي بذلها اتحاد إذاعات الدول العربية بالتعاون مع هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية منذ بداية العدوان على غزة.
إذ وضع الاتحاد خطة إعلامية استثنائية لنقل تفاصيل المأساة اليومية من قطاع غزة إلى المشاهد العربي والدولي، "بعيون عربية"، ومن خلال شبكة مراسلين خاصين تم التعاقد معهم في شمال غزة وجنوبها والضفة الغربية المحتلة.
وقد أسهمت هذه التغطية في إيصال الحقيقة إلى أكثر من مليون شخص من غير العرب حول العالم، بفضل التنسيق مع الاتحادات الإذاعية الإقليمية في أوروبا وآسيا وإفريقيا.
كما أتاح الاتحاد مواد التغطية كاملة لهذه الهيئات، وساهم في توسيع نطاق الرواية الفلسطينية عالميًا.
محتوى إعلامي واسع وتغطية متنوعة
منذ بداية العدوان، وفر مراسلو الاتحاد ما يفوق 6000 مادة إعلامية توزعت بنسبة 50% على تغطية أمنية، و30% على قصص إنسانية تصف معاناة الفلسطينيين تحت القصف والدمار، و20% على تقارير اقتصادية واجتماعية.
وتم توثيق استهداف الصحفيين لحظة بلحظة، مع تسجيل أكثر من 230 شهيدًا من العاملين في قطاع الإعلام.
ومن جهته، ساهم التلفزيون الفلسطيني في هذه التغطية عبر تزويد منصات الاتحاد بما يزيد عن 1500 مادة، شملت بثًا مباشرًا، وتقارير ميدانية، ومواضيع مصورة بهواتف الصحفيين من قلب الحدث بعد التثبت من صدقيتها وموثوقيتها.
قنوات الاتحاد في خدمة الحقيقة
ولم تقتصر مساهمة الاتحاد على الجانب التحريري، بل وفر قنواته الرقمية بالكامل في خدمة التلفزيون الفلسطيني، لعرض برامجه خلال ساعات الذروة، وضمن حيزات واسعة تُبث عبر منصاته، بما يضمن وصول الرواية الفلسطينية إلى أوسع جمهور عربي ودولي.
كما حرص الاتحاد على متابعة استهداف الإعلاميين بالقتل والاعتقال بشكل فوري، عبر تقارير موثقة وشهادات حية، لتبقى جرائم الاحتلال مكشوفة أمام الضمير العالمي.
توصيات وتفاعل..
شهدت الندوة تفاعلًا كبيرًا من الحضور، الذي ثمّن الجهد الإعلامي الفلسطيني والعربي في ظل الظروف المأساوية، وطرح المشاركون تساؤلات متعددة حول سبل حماية الصحفيين الفلسطينيين قانونيًا، وحول آليات تطوير المحتوى الإعلامي المقاوم ليبقى قادرًا على مواجهة الدعاية الإسرائيلية.
وشدد المتدخلون على ضرورة مواصلة الدعم العربي الكامل للإعلام الفلسطيني، ودعوا إلى مزيد من التنسيق وتبادل التغطيات بين الهيئات الإذاعية والتلفزيونية في الوطن العربي.
الإعلام الفلسطيني.. رواية من دم ونار
لم تكن ندوة "الإعلام الفلسطيني على خط النار" مجرّد فعالية ثقافية أو فكرية، بل كانت لحظة مكاشفة مؤلمة ومشرّفة في الآن ذاته، سلطت الضوء على نضال إعلاميين يدفعون أرواحهم ثمنًا لكشف الحقيقة في وجه آلة قتل صهيونية لا تتورع عن استهداف الكاميرا كما تستهدف الحجر.
في زمن تتلاشى فيه المعايير، ويتمّ فيه التسويق للرواية الأقوى صوتًا لا الأصدق حجةً، كان لا بدّ من أن يصعد الصوت الفلسطيني من بين الركام، ليقول للعالم: "لسنا مجرد ضحايا، نحن أيضًا رواة حقيقيون، شهود على المأساة، وصنّاع وعي، ومقاومون بالكلمة والصورة".
لقد أكدت الندوة مجددًا أن المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن معركة الأرض، فكما يواجه الفلسطينيون الاحتلال في الميدان، فإن الصحفيين الفلسطينيين يواجهونه يوميًا بالكلمة والمشهد والوثيقة، متحدّين الموت، ومعيدين للقضية نبضها في كل شاشة ومنصة، في كل قصة خبرية وتقرير إنساني.
وسط هذا المشهد، يبرز اتحاد إذاعات الدول العربية بوصفه شريكًا في هذه المعركة، ليس فقط بدعمه التقني واللوجستي، بل بإيمانه بقدرة الإعلام العربي على قلب المعادلات، وفرض الحقيقة على الخريطة الدولية.
الإعلام الفلسطيني سيبقى، كما أكّد الوزير أحمد عساف، في صلب معركة التحرر الوطني، ما دام هناك من يكتب، من يصوّر، من يوثّق، من يصرخ في وجه القتل: هنا شعب حيّ.. وهنا حقّ لا يُطمس.