تميّزت الدورة الخامسة والعشرون من المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون بعدد من اللقاءات والندوات الفكرية التي تناولت أبرز قضايا الإعلام العربي، ومن بينها ندوة حوارية لافتة بعنوان: «الإعلام الموجّه إلى الطفل – أزمة إنتاج أم غياب الاستراتيجيات؟»، انعقدت يوم الأربعاء 25 جوان/يونيو 2025 بالمدينة المتوسطية بالحمامات في تونس، وجمعت نخبة من الخبراء والمختصين في مجالات الإعلام التربوي وصناعة المحتوى الرقمي والرسوم المتحركة، الذين تبادلوا الرؤى حول واقع إعلام الطفل في العالم العربي وإشكالياته وتحدياته الكبرى.
استراتيجية إماراتية متكاملة: نموذج أبوظبي للإعلام
في مداخلته، استعرض الدكتور عيسى سيف المزروعي، الرئيس التنفيذي لمركز المحتوى في شركة أبوظبي للإعلام، التجربة الإماراتية في التعامل مع ملف إعلام الطفل، مشيرًا إلى أن دولة الإمارات، من خلال مؤسساتها الوطنية وعلى رأسها المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، أولت اهتمامًا بالغًا بهذه الفئة، ما دفع شبكة أبوظبي للإعلام إلى بلورة استراتيجية واضحة خاصة بالطفل.
وأوضح المزروعي أن هذه الاستراتيجية تنبع من رؤية وطنية شاملة، وتشمل مشاريع رائدة مثل مجلة ماجد وقناة ماجد، اللتين تضطلعان بدور جوهري في تقديم محتوى ملائم وآمن للأطفال.
وأكد أن الشبكة تعتمد مقاربتين: إنتاج المحتوى داخليًا أو شراءه من الخارج، وفي كلا الحالتين تُعرض المواد على لجان متخصصة تتولى مهمة التقييم والانتقاء وفق معايير صارمة، بما يضمن المحافظة على القيم والمضامين التربوية الملائمة للأطفال.
دعوة للعودة إلى "ساعة الطفل" اليومية في الإعلام العربي
أما المخرجة البحرينية إيناس يعقوب، المتخصصة في أفلام الرسوم المتحركة، فقد عبّرت عن أملها في أن تولي جميع القنوات العربية العامة اهتمامًا متجددًا ببرامج الأطفال، مشيرة إلى التأثير العميق الذي تتركه هذه البرامج في تشكيل وعي الطفل وتوجيه اهتماماته.
وتمنت يعقوب أن تستعيد القنوات العمومية "ساعة الطفل" اليومية التي كانت مكرّسة في السابق لمحتوى خاص بهذه الفئة، خاصة في ظل الانفتاح الواسع للأطفال اليوم على العالم الرقمي، وتعرّضهم لمحتويات أجنبية لا تراعي بالضرورة الخصوصيات الثقافية العربية.
كما شددت على ضرورة وجود رقابة عربية أكثر فاعلية على محركات البحث ومنصات الفيديو مثل "غوغل" و"يوتيوب" في نسختها الموجهة للطفل العربي، لحماية الطفل من المضامين غير الملائمة، واقترحت تطوير "سبسكرايب" عربي رقمي يخضع لمعايير تربوية واضحة.
الحاجة إلى منصات رقمية عربية شاملة وموحّدة
من جهتها، تناولت الدكتورة ليلى شمس الدين، الأستاذة الجامعية اللبنانية والباحثة المتخصصة في تقاطع الإعلام والمجتمع، المسألة من زاوية أكثر شمولاً، مركّزة على التفاوت بين أطفال العالم العربي من حيث الإمكانيات والوصول إلى الإعلام، وهو ما يستدعي ـ بحسب قولها ـ إعادة النظر في أسس الإنتاج الإعلامي الموجّه للطفل.
ولاحظت شمس الدين أنه رغم كثرة الإنتاجات الموجهة للطفل في العالم العربي، فإن نسبة كبيرة من المحتوى لا يُنتج محليًا، بل يعتمد على استيراد أو دبلجة برامج أجنبية، مما يطرح تساؤلات حول القيم التي تُبث من خلال هذه المضامين ومدى مناسبتها للطفل العربي.
ودعت إلى أن تأخذ المؤسسات الحكومية العربية زمام المبادرة في هذا المجال، عبر إنشاء منصات رقمية شاملة تحمل مضامين تعليمية وترفيهية وتوعوية وتثقيفية بأساليب عصرية جذابة، تستهدف الطفل العربي بلغته وبقيمه، دون أن تتجاهل خصوصيات كل بلد.
كما اقترحت أن تتنوع الوسائط المستخدمة بين البرامج الحوارية، الرسوم المتحركة، والألعاب التفاعلية، بما يُواكب اهتمامات الجيل الجديد.
وشددت على أن الطفل اليوم يختلف كثيرًا عن طفل الأمس، وهو ما يفرض على صناع المحتوى، وعلى الجهات الحكومية، أن تواكب هذا التحوّل وتستثمر في منتج إعلامي جديد قادر على التأثير والمنافسة، ضمن استراتيجية عربية تحافظ على الهوية الثقافية وتواكب التحولات العالمية في الوقت ذاته.
نحو إعلام طفولي عربي يعكس واقع الطفل ويصنع مستقبله
قدّمت هذه الندوة تشخيصًا عميقًا لواقع الإعلام الموجّه إلى الطفل في العالم العربي، وأبرزت الحاجة الملحّة إلى إعادة الاعتبار لهذه الفئة العمرية التي تشكّل مستقبل المجتمعات.
وتوافقت مداخلات الخبراء على أن الإشكالية لا تتعلّق فقط بغياب الإنتاج، بل قبل كل شيء بـغياب رؤية استراتيجية شاملة تؤسس لمحتوى عربي ذي جودة، قادر على حماية الطفل وتعزيز انتمائه الثقافي والوطني في زمن الانفتاح الرقمي والتدفق الإعلامي الكاسح.
فما بين التجارب المؤسسية الناجحة مثل "أبوظبي للإعلام"، والدعوات إلى دعم البرامج اليومية المخصصة للطفل، والمطالب بإطلاق منصات رقمية عربية، ظهرت ملامح الطريق نحو إعلام طفولي عربي متجدد.. إعلام لا يُنتج فقط من أجل الطفل، بل يُصنع بالشراكة مع الطفل ولأجل مستقبله.