الدراما العربية بين المحلية والعالمية: دعوة إلى صياغة رؤية استراتيجية موحّدة في عصر المنصات والذكاء الاصطناعي

 

في إطار فعاليات الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، التأم يوم الثلاثاء 24 جوان/يونيو 2025 بالمدينة المتوسطية بالحمامات، لقاء فكري هام تمثل في ندوة بعنوان: «صناعة المحتوى الدرامي العربي: من النص إلى المنصة، كيف ننافس في السوق العالمية؟». 

وقد أشرف على إدارتها الإعلامي شاكر بسباس، بمشاركة ثلة من الأسماء المتميزة في ميادين الإخراج والبحث والإعلام والكتابة، وهم:

  • هشام الجباري، مخرج مغربي
  • سفيان العكروت، أستاذ جامعي وباحث جزائري مختص في علوم الإعلام والاتصال
  • نسرين عبد العزيز، أكاديمية وباحثة مصرية

 

الندوة شهدت حضورًا كثيفًا وتفاعلاً ملحوظًا من الحاضرين، وفتحت النقاش بشأن سبل تجاوز الدراما العربية لحدودها الجغرافية واللغوية، والوصول إلى المنصات العالمية، مستندة إلى مقاربة شاملة شملت الهوية، اللغة، التقنيات، النصوص، التوزيع، والذكاء الاصطناعي.

المخرج هشام الجباري: قوة الدراما في هويتها.. لكنها أسيرة المحلّية

في مستهل الجلسة، قدم المخرج هشام الجباري مداخلة تحليلية اعتبر فيها أن الدراما العربية لا تقل أهمية عن الكورية أو الإسبانية أو التركية من حيث الثراء الثقافي والتاريخي والبصري، غير أنها بقيت "أسيرة المحلية"، بسبب:

  • عائق اللغة الذي يُصعّب وصولها إلى الجمهور العالمي
  • ضعف الترجمة والدبلجة، ما يحدّ من انتشارها خارج المنطقة.
  • محدودية التمويل، مما ينعكس على جودة الإنتاج.
  • ضعف آليات التوزيع، التي تظل محصورة في الشاشات والمنصات الإقليمية.
  • محلية المواضيع والمعالجات، التي لا تفتح آفاق الفهم الدولي.

واقترح الجباري عددا من الحلول العملية وهي:

1.  تعزيز الترجمة والدبلجة بمستوى احترافي.

2.  تحسين المعايير التقنية والجمالية للأعمال.

3.  دعم الإنتاج المشترك والتوزيع الخارجي.

4.  بناء منصات عربية موجهة للسوق الدولية.

5.  صناعة نجوم عرب بقدرة على تجاوز حدود المنطقة.

الدكتور سفيان العكروت: التحول الرقمي فرض قواعد جديدة

من جانبه، استند الباحث الجزائري سفيان العكروت في مداخلته إلى أرقام دقيقة حول استخدام الإنترنت في العالم العربي، ليؤكد أن:

  • عدد مستخدمي الإنترنت بلغ 348 مليون نسمة، أي أكثر من 70% من السكان.
  • 53% من الشباب العربي يتابعون الدراما عبر المنصات بصفة دائمة.
  • 29.5% يتابعونها أحيانًا أو بصفة دورية
  • 17.5% فقط لا يتابعون الدراما عبر المنصات.

ورأى أن هذه المعطيات تكشف تحولاً جوهريًا في استهلاك المحتوى، ما يستدعي مراجعة سياسات الإنتاج والتوزيع والتفاعل مع الجمهور.

وشدد العكروت على ضرورة بلورة رؤية عربية موحدة، محذرًا من خطورة تفشي الإنتاج القطري المنعزل وتشتت الموارد، مستشهدًا بفيلم “الرسالة” كمثال على نجاح الإرادة السياسية والاستثمار العربي المشترك.

نسرين عبد العزيز: الذكاء الاصطناعي شريك قادم في الكتابة

بدورها، تناولت الباحثة المصرية نسرين عبد العزيز المسألة من زاوية المستقبل، مركزة على الأثر المتنامي للذكاء الاصطناعي في مجال كتابة المحتوى الدرامي.

وأكدت أن العالم على مشارف مرحلة جديدة تنتج فيها الخوارزميات نصوصًا درامية قد تحاكي الكتابة البشرية، داعية إلى:

  • تأهيل الكفاءات العربية للتفاعل مع هذه الأدوات.
  • تطوير المؤسسات الإنتاجية لمواكبة هذا التحول.
  • الاستثمار في جيل جديد من الكتاب والمخرجين القادرين على استغلال الذكاء الاصطناعي كأداة إبداعية.

نقاشات حيوية.. ووعي جماعي بالحاجة للتغيير

تفاعل الجمهور مع المداخلات فتح الباب لنقاشات ثرية، أبرزها الانتقادات الموجهة إلى ضعف النصوص واعتمادها أحيانًا على الاقتباس غير الواعي من أعمال تركية أو لاتينية، وُصف بعضها بـ"المسخ الدرامي" الذي يفتقر للخصوصية الثقافية.

وردّ الجباري على هذه الانتقادات قائلاً إن الإشكال ليس في الاقتباس بل في غياب المعالجة العميقة، مشددًا على ضرورة كتابة نصوص محلية برؤية كونية، لأن الجمهور العالمي يبحث عن الأصالة والواقعية وليس فقط عن الإثارة.

وذكّر بتجربة الدراما الكورية التي غزت العالم بلغتها وثقافتها دون تنازل عن الهوية، مؤكدًا أن الجرأة الفنية والثقافية شرط أساسي للنجاح عالميًا.

 

توصيات الندوة: نحو صناعة درامية عربية عالمية

خرجت الندوة بعدّة توصيات، أبرزها:

  • إنشاء صناديق تمويل عربية مشتركة لدعم الأعمال القابلة للتوزيع عالميًا.
  • إطلاق منصات عربية مستقلة وقوية موجهة للجمهور الدولي.
  • تشجيع المواهب الشابة في الكتابة، الإخراج، والتقنيات الحديثة.
  • دعم الترجمة والدبلجة باحترافية.
  • توفير بيئة نقدية مستقلة ومهنية ترافق الإنتاج.
  • الانفتاح على الذكاء الاصطناعي كرافد لصناعة المحتوى.

ختامًا، شكّلت هذه الندوة محطة مفصلية في مسار التفكير الجماعي بشأن مستقبل الدراما العربية، حيث التقى النقد الأكاديمي بالتحليل الإعلامي والرؤية الإخراجية لإبراز التحديات العميقة التي تعيق انتشار هذا المنتوج الثقافي عربيًا وعالميًا. 

لقد برز إجماع واضح على أن اللحظة تستوجب تحركًا جماعيًا عربيًا يتجاوز الفردي والقُطري نحو بناء استراتيجية شاملة تستثمر في الإبداع، التكوين، التقنية، والتوزيع، وتمنح الدراما العربية المكانة التي تستحقها على خارطة المشهد السمعي البصري العالمي. 

ففي زمن يتسارع فيه التطور التكنولوجي وتتشكل فيه أذواق جديدة للجمهور، لم يعد بالإمكان الركون إلى المسلّمات القديمة، بل المطلوب اليوم هو دراما تنبع من الخصوصية العربية وتنفتح بشجاعة على الكونية.